يعتقد البعض أن المال بات «عصبُ» هذا العصر، وأن الحصول على بعض منه ينفخ وضعه بالقوة ويعطيه مقاسات تتجاوز مقاساته ويرفع من قدره وقدرته. إلا أن الأيام ممزوجة بالواقع بدأت تشير إلى أن «غياب المال» هوعامل القوة بالفعل. فكما يقول المثال البيروتي «أقوى من الحكومة هو الطفران»، أي أن لا تملك شيئاً يجعلك أقوى بكثير من الذي يملك ويتملك. فإذا كنت مديوناً ببعض الدنانير أو الدراهم أو الريالات أو الليرات أو غالب الظن بعض الدولارت، فإن المصرفي سوف يجعل حياتك جحيماً، يكلمك بفوقية ليبرهن لك أنك أقل من لا شيء رغم أن فوائد ديونك تغذي بقوة راتبه آخر الشهر. أم أن تكون مديوناً بعشرات الملايين فإنك تنغص عيشة المصرفي وتمنع عن جفونه النوم، فيلهث وراءك بصوت ودود يحمل كلاماً معسولاً لا تشوبه أي كلمة تهديد أو نبرة تأنيب.
ويبدو أن القييمين على الاقتصاد الأميركي تعلموا «درس المثال البيروتي»، فديونهم تقارب الـ ١٤ ألف مليار (١٢ صفراً بعد الأرقام!) وهو رقم لا يمكن سداده أياً كانت نسب النمو ومقدار تقليص النفقات استناداً لحسابات كافة الخبراء. ولكن هذا لا يمنع الدول من اللهاث وراء واشنطن لتقديم عروض شراء سندات الخزينة الأميركية، رغم تراجع علامات تقييم ملاءتها. فهذه الدول تستطيع أن تعطي دروساً وترفع صوتها عالياً وتهدد بالويل والثبور (الصين) وتعطي دروساً في ضرورة تقليص الدين العام (ألمانيا) وتحاول التقليل من مقدار خسائرها في محفظة السندات الأميركية (الدول النفطية)، إلا أنها تعود منصاعة لتقدم رقبتها وتتسابق لشراء إصدارات شديدة لتحصل بأموالها الجديدة فتات تمثل فوائد السندات القديمة. أي تدفع لتقبض الفوائد السابقة!
وبالطبع يمكن لأي ملم بأبسط العمليات الحسابية في الصفوف الابتدائية أن يدرك أن هذه العملية هي دائرة مقفلة لا نهاية لها. ووصف زعيم أوروبي سابق هذه الحلقة بأنها لعبة، وأجاب على تعجب شلة من الإعلاميين تحلقوا حوله بقوله: «أميركا تستدين من العالم فتنفق وتشتري مسدساً، عند استحاق تسديد ديونها تأتي ومعها المسدس تطلب ديناً جديداً أكبر من السابق، فتسدد الفوائد وتنفق وتشتري مدفعاً، عندما تعود يكون مدفعها أكبر أو بات صاروخاً أو حامة طائرات وهكذا دواليك». تنهد قليلاً وشرب من كوب يحمله وتابع: «يدرك العالم هذا الشيء ولكنه لا يستطيع التوقف عن لعب هذه اللعبة، ليس خوفاً من المدفع الكبير ولكن خوفاً من انهيار النظام العالمي الذي قبل من البداية شروط هذه اللعبة».
ولكن علمنا التاريخ أن لكل لعبة نهاية. ونهاية اللعبة الأميركية سوف تعني انهياراً لكل من راهن على المال الافتراضي عصباً لهذا العصر، سوف تتبعثر الأوراق المالية هباء منثوراً في غبار الافتراضية المطبقة، لتبقى فقط الثروات المرتبطة بالأرض… خارجها وباطنها. فيا أصحاب الثروات من نفطية إلى معدنية لا تفرطوا بها مقابل أوراق خضراء.