فاز يابانيان بجائزة الشيخ زايد للكتاب فى دورتها التاسعة 2014-2015، وهما استاذ اللغة العربية والمترجم «هاناوا هاروو» الذي حصل على جائزة الترجمة لعمله على ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، والاستاذ سوغيتا هايدياكى المتخصص بالحضارة العربية وأستاذ اللغة العربية في جامعة طوكيو حصل على جائزة الثقافة العربية فى اللغات الأخرى عن كتابه «تأثير الليالى العربية فى الثقافة اليابانية».
هذا الحدث الثقافي الكبير الذي هو تكريم لجهد اليابان الثقافي الموجه لفهم الحضارة العربية يتطلب إلقاء نظرة إلى بداية «لقاء اليابان» بالأعمال العربية القديمة وخصوصاً «ألف ليلة وليلة».
وصلت «ألف ليلة وليلة» إلى اليابان في عام ١٨٧٥ أي بعد أقل من تسع سنوات من انفتاح اليابان المعروف بعض التنوير أو عصر «ميجي». وقد جاءت أول ترجمة على يد «ناغامينه هيديكي» (NAGAMINE Hideki). ومن المهم جداً لفهم سياق «سوء التفاهم» الذي لاقى «ألف ليلة وليلة» في الأرخبيل الياباني، الإشارة إلى أن ثورة «ميجي» أخرجت اليابان من عزلة(سَكوكوُ) دامت من عام ١٦٣٩ إلى عام ١٨٦٨، وكان التواصل بين الخارج (أي الغرب بشكل عام) واليابان ممنوعاً منعاً باتاً، ومحصوراً فقط في طبقة ضيقة من المثقفين المقربين من الحكام.
ولكن هذا لم يمنع من انتشار العلم في البلاد والاطلاع «عن بعد» عما كان يحصل من تقدم في الغرب، إذ كان يتم شراء كتب عن طريق الهولنديين، لذا كانت الدراسات الغربية وكل ما يتعلق بفهم الغرب وتطور العلوم فيه يشار له بـ … دراسات هولندية (ران غَقُو). إلا أن الوصول إلى الكتب الأدبية كان يقتصر على الضالعين باللغات الأجنبية الذين كانوا «ينقلون» تلك الأعمال إلى اللغة اليابانية حسب مفهومهم الخاص. لذا عندما دفعت أول ترجمة إلى يد القارئ الياباني فهو اعتبر أنها «عمل أدبي خيالي غربي». وقد ظل هذا الاعتبار قائماً حتى مطلع القرن العشرين ونشأة الدرسات العربية والإسلامية على يد نخبة من المستعربين اليابانيين.
وجب أيضاً الإشارة إلى أن أول ترجمة تم «تشجذيبها» وتم حذف كل المقاطع التي تطال الجنس (إيروتيك) والتي لم تكن تلائم المجتمع الياباني المحافظ آنذاك. وقد تم «إعادة» المواد المحظورة في الطبعات المتتالية في مطلع عشرينيات القرن العشرين. «ألف ليلة وليلة» لاقت رواجاً كبيراً لدى القارئ الياباني النهم. مع التنويه بأن ترجمة طبعة «بورتون»الكاملة في عام ١٩٢٩ تم منعها تماما من قبل الحكومة اليابانية.
لا بد من الإشارة إلى أن تطور اليابان وولوجه الحداثة وانتشار الثقافة بمعناها العام ومحو الأمية، لم يبدأ مع وصول الامبرطور ميجي كما يحلو للبعض القول، ولكنها نتيجة ثورة ثقافية بدأت بحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر (١٨٣٠) في العهد «إيدو». حداثة ميجي استفادت من الأرضية التي أهبتها موجة التعليم التي عمت البلاد في السنوات الخمسين السابقة. لذا كان القارئ الياباني نهما لكل ما يصل… من الخارج، وفي تلك الحقبة :الخارج كان رديفاً للغرب.
إن تأثير «الليالي» وهي التسمية التي تستعمل للإشارة لـ«ألف ليلة وليلة» كان حاسماً وكبيراً على الأدب الياباني، وهذا ما يصعب تصديقه بالنسبة لغير المتخصصين من يابانيين وأجانب. وهذا التأثر والتفاعل ليس من باب المبالغة أو من باب المغالاة، وكفي أن ذكر ثلاثة أسماء في قمة الهرم الأدبي الياباني لمعرفة مدى هذا التأثير: تانيزاكي وأتوكاغاوا وميشيما وكاواباتا بالطبع. هذا بعض من أشهر الكتاب في اليابان الذين تأثروا بـ«الليالي» وكتبوا ذلك و«اعترفوا» بتأثيرها على أعمالهم.
وللدخول في التفاصيل لنأخذ مثال ميشيما المعروف في عالمنا العربي، إذ أنه يعتبر لدى العديد من المهتمين بالأدب الياباني «أحد ممثلي الحس الأدبي اليابانية» ورهافته. تقول «شيكاكو موري» وهي باحثة متخصصة في الأدب المقارن «إن ميشيما لم يعبر ألف ليلة وليلة عبوراً بل هي رافقتها طيلة نتاجه الأدبي»، إذ أن عمل «الليالي»موجود كوعاء لكافة أعماله وتمثل «كانفا» لرواياته ومؤشر معلمي لسرده. أضف إلى أن ميشيما كتب مقدمة إحدى ترجمات ألف ليلة وليلة على يد «ماسافوُمي أووبا» . وكذلك مثّل ميشيما دوراً في في آخر ظهور له على خشبة المسرح في مسرحية «الليالي العربية». وفي روايته «قصة حصلت في رأس البحر» يصف ميشيما «خيانة شهرزاد لشهريار» من جهة و«كآبة أجواء ملك الجزر الذي يلتقي سندباد ويغويه». وفي كتباته يصف كيف مُنِعَ من قراءة ألف ليلة وليلة بسبب «رقابة أهله». ويأتي هذا الوصف لأن ميشيما «يقرظ اللاطبيعي» ويرى أن ألف ليلة وليلة تناسب شخصيته التي يصفها بأنها «لاطبيعية»، وقد برز ذلك في كيفية إخراج مسألة انتحاره التي يقول عنها بعض النقاد أنها كانت شبيهة بمسرحية من ألف ليلة وليلة.
كواباتا وروايته “الجميلات النائمات” لا تبدو فقط كأنها إحدى حكايات تلك الليالي، بل هي من صميم ألف ليلة وليلة، وقد تأثر كواباتا بهذا العمل مثله مثل العديد من الكتاب مثل سيرفانتس وبيريك وبروست وبازوليني. ولكن في روايته الشهيرة «الجميلات النائمات» التي حاكاها غبريال غارسيا ماركيز في رواية «الغانيات الحزينات». نجد تأثير ألف ليلة وليلة بشكل واضح: فهو عالم «النساء»، ذلك أن ألف ليلة وليلة في اللاوعي العالمي (قبل وبعد العولمة) هي قصة نساء في قصور أو في حجرات أو وراء خمار أنها عجائبية ألف ليلة وليلة التي غزت العالم، وساهم في نشر غزوها تأثير الكتّاب وتأثرهم بها.
وقد فرض الأدب الياباني نفسه في القرن العشرين كواحد من أبرز الآداب العالمية مع العديد من الأسماء الكبيرة. ومنذ سنوات يبرز اسم «هاروكي موراكامي» المرشح لجائزة نوبل للأدب، والتي لا بد أن تكون يوماً ما من نصيبه ليرث الياباني الذي سبقه أي كاواباتا. يكتب مواراكامي في روايته «كافكا على الشاطئ» التي صدرت عام ٢٠٠٢ ما يلي: «أعود إلى قاعة المطالعة، اجلس على مقعد مريح وأغوص عن جديد في عالم ألف ليلة وليلة»، ويتابع «رويداً رويداً، يختفي الواقع من محيطي كما يحصل حين تنتقل مشاهد فيلم في السينما على الشاشة. فأغوص وحيداً بين الصفحات» وينهي كاتباً «أحب هذه الأحاسيس أكثر من أي شيء في العالم».
نرى عبر هذه الأمثلة ويجود الكثير مثلها، تأثير «الليالي» بالأدب الياباني وكيف ينبث هذا التأثير في أدب أمة كبيرة متأصلة في التاريخ. ويساعد في معرفة هذا العمل الابداعي أجواء القراءة في اليابان بلد القراءة رقم واحد في العالم، فالنظام التعليمي في الأرخبيل متماسك ومتين، يضاف إلى ذلك أن ظروف الحياة فهي تدفع نحو القراءة، إذ أن الوقت الذي يمضيه الياباني في المواصلات بين مكان إقامته وبين مكان عمله يأخذ ٢٠ في المئة من وقته اليومي. يضاف إلى ذلك أن «الكاتب بستطيع أن يعيش من كتاباته في اليابان»، إذ أن ضبط أمور النشر وحقوق الكتاب مضمونة مئة في المئة، وبالتالي فإن طلب القراءة يلاقيه عرض المكتوب فيخلق تفاعلاً يقود نحو الوفرة في الكتابة وبالتالي الانفتاح على الابداع في العالم.
هذا من ناحية مادية أما من ناحية أدبية فإن اليابان كانت ولا تزال أرض التأمل والطبيعة الجميلة فالياباني مرهف الحس ويزرف الدموع أمام جمال الطبيعة، والمجتمع الياباني مجتمع واسع فيه الكثير من التنوع ولكن ضمن إطار ياباني محط أي أن الإنسان الياباني يستطيع أن يعايش الحالات الإنسانية التي ينقلها له الكاتب أو يصفها في كتاباته، فيتأثر بها. كما العنف أيضاً الذي عرفته اليابان على مر تاريخها بسبب الحروب الداخلية وهي تشكل عامل أدبي على غرابة الأمر. وقد وصف كتاب عديدون المعارك والحروب والتحالفات وكذلك فعلت السينما والمسارح، وهذا يشكل مخزوناً للمخيلة اليابانية تغرف منها شخصيات تنورها كتابات أدبية عديدة، من هنا يتفاعل الأدب الياباني مع الآداب العالمية الأخرى ومنها ألف ليلة وليلة.
في عالمنا العربي لا يتم نقل الأدب الياباني الى اللغة العربية مباشرة عن اللغة اليابانية. كل الأدب الياباني المُعَرَب، وليس بعضه، تتم ترجمته عبر اللغات الأجنبية انكليزية كانت أم فرنسية. وهذا يفتح باب مسألة تعليم اللغات في العالم العربي ومنها تعليم اللغة اليابانية. ومسألة نقل الأدب الياباني متعلقة بشكل وثيق بشؤون النشر في العالم العربي وهي مليئة كما يعرف الجميع بشجون أليمة. فغياب السوق الكبيرة يجعل الناشر عاجزاً عن الدفع باستثمارات كبيرة ليعطي الكاتب أو المترجم حقه. لذا فعند الضرورة تكتفي دور النشر بترجمة ما «يتناهى إلى سمعها من أدب ياباني» مترجم إلى لغة غربية. ولكنها في الواقع لا تمثل إلا كما صغيراً من النتاج المعبر عن الأدب الياباني، كما أن خيار الروايات المترجمة هو أولاً وأخيراً خياراً …. غربياً.
ويمكن اختصار معاناة العلاقة العربية اليابانية الأدبية كما يلي «غياب القراءة تغيّب النشر»، وهو ما يحجب الأدب الياباني عن المجتمع العربي. مثال بسيط على الصعوبة التي تواجه هذا الأمر، فإن ترجمة رواية متوسطة عن اليابانية تتطلب جهد سنة كاملة، ومن المستحيل أن نجد ناشراً يستطيع أن يؤمن مدخول سنة لمن تخصص باللغة الياباني واتقنها.
وهذا بعكس ما يحصل في اليابان حيث يترجم الأدب العربي والعديد من الأعمال مباشرة من اللغة العربية بواسطة المستعربين اليابانيين. هناك الآلوف من المستعربين اليابانيين الذي ينكبون على دراسة لغة الضاد وينهلون من أدبها. يرتبط كل ذلك بالنظام التعليمي ولكن أيضاً بتبصر الأمور من قبل السلطات المسؤولة عن الثقافة والتعليم. وما نيل هاناوا ووتسوغيتا الجائزتين سوى أبرز برهان على نجاح اليابان في تملك أداة فهم الحضارة واللغة العربية، وبالتالي تفهم المجتمعات العربية والإسلامية.
د. بسّام الطيارة
أستاذ مساعد في معهد اللغات الشرقية في باريس
مقالة نشرت في «نزوى»